السبت، 22 أكتوبر 2016

أثر الإسلام في الحياة الأدبية

أحدث ظهور الإسلام تحولاً جذرياً في حياة الأمة العربية ونقلها من طور التجزئة القبلية إلى طور التوحد في إطار دولة عربية تدين بالإسلام وتتخذ القرآن الكريم مثلاً أعلى. وكان لابد لهذا الحدث العظيم من أن يعكس صداه القوي في الحياة الأدبية لهذه الأمة. شعراً ونثراً ومن الطبيعي أن النتاج الأدبي للأمة يتفاعل مع البيئة التي تظله ويخضع لمؤثراتها.

وحين تُرصد الظواهر الأدبية في صدر الإسلام يتبين بجلاء ما تركه الإسلام من بصمات واضحة في مسيرة الأدب وفي سماته وخصائصه. 
ومن أبرز آثاره ضمور فنون أدبية كانت مزدهرة في العصر الجاهلي وظهور فنون جديدة أو تطور فنون قديمة. فقد قضى الإسلام على سجع الكهان الذي كان مرتبطاً بالوثنية الجاهلية ونهي الخطباء عن محاكاة ذلك السجع في خطبهم، وظهر لون من الخطابة يستقي من ينابيع الإسلام. وأخذ الشعراء يعزفون عن النظم في الأغراض التي كانت حياة العرب في الجاهلية تدعو إليها. واتجهوا إلى أغراض دعت إليها البيئة الإسلامية كشعر الجهاد والفتوح والشعر الديني، وأصبح شعرهم يدور حول معان تتصل بالقيم والمثل الإسلامية. وقد أوجد الإسلام مبادئ خلقية تلائم تعاليمه وروحه فانعكست هذه المبادئ في النتاج الأدبي عصرئذ.
وقد راجت مقولة تذهب إلى أن الإسلام وقف من الشعر والشعراء موقفاً مناهضاً مثبطاً، استناداً إلى قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون (الشعراء: 224-226). وتصحيحاً لهذه المقولة ينبغي التوضيح أن الشعراء الذين تناولتهم الآيات القرآنية إنما هم الشعراء الذين كانوا يحرضون على الفتنة، ويخوضون في الإفك والباطل، والذين كانوا يتصدون لهجاء الرسول عليه السلام والمسلمين، وليس المقصود الشعراء كافة، ولهذا استثنى تعالى الشعراء الذين لا تصدق عليهم الآيات السابقة بقوله بعدها: )إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعدما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون( (الشعراء 227). وكان الرسول عليه السلام يميل إلى سماع الشعر الجيد، وكان يشجع حسان بن ثابت وشعراء الأنصار على مهاجاة شعراء المشركين، وكان يقول لحسان: «اهجهم وروح القدس معك»، فهو إذاً لم يدع إلى التخلي عن الشعر وإنما كان يقف موقفاً مناهضاً من الشعر الذي ينافي المبادئ والقيم الإسلامية، وقد أثر عنه حديث في إطراء الشعر وهو قوله عليه السلام: «إن من الشعر حكمة» 
وكان للإسلام يد لا تنكر في ازدهار النثر الأدبي، ولاسيما الخطابة والترسل، فقد أصبحت الخطابة وسيلة لنشر الدين والوعظ وبيان مبادئ الإسلام والحض على الجهاد والدعوة إلى مكارم الأخلاق وبيان خطة الحكم، وكان الرسول عليه السلام وخلفاؤه خطباء مفوهين، وكذلك كان جل عمالهم وقوادهم. وقد دعا قيام الدولة الإسلامية واتساع سلطانها إلى الاستعانة بالكتابة والكتاب، وكانت الكتابة محدودة الانتشار في العصر الجاهلي فاتسع لها المجال في صدر الإسلام وأقبلت الناشئة على تعلم الكتابة.

من روائع القصص في العصر الجاهلي قصة النعمان بن المنذر ويوم البؤس ويوم النعيم

تحكي كتب التراث أن / النعمان بن المنذر كان يهوي الصيد، وكان لديه فرس اسمه اليحموم كان سريع العدو وأنه امتطي صهوة هذا الفرس يوما للصيد ورأي حمارا وحشيا وأراد صيده وكان هذا الحمار سريع الجري فتتبعه / النعمان بن المنذر حتي ضل طريقه في الصحراء فلا هو استطاع أن يرجع إلي قصره، ولا هو استطاع أن يصطاد الحمار، وأثناء حيرته لمح من بعيد خيمة في الصحراء، فاقترب منها، وشاهد في داخلها رجل وامرأته وأحس الرجل والمرأة بالقادم إلي الخيمة عندما صهل الحصان الذي يركبه كان رجلا مهيبا يدل منظره وملابسه علي أنه انسان مهم !! 

ودخل / النعمان بن المنذر الخباء، وكان علي وجهه أثر السفر، وبدا علي وجهه الاجهاد لم يعرفاه أول الأمر وطلبا منه أن يستريح ولم يكن لدي الرجل وكان يسمي / حنظله سوي شاه وبعض اللبن، فقدما له الشاه بعد أن ذبحها الزوج، وقدمت المرأة له اللبن . 

وبات / النعمان ليلته في هذا الخباء وفي الصباح أخذ طريقه إلي قصره، بعد أن دله الرجل علي الطريق إليه، بعد أن عرف أنه / النعمان بن المنذر قبل أن يغادر / النعمان الخباء قال :-

يا أخا طي عرفت أنني الملك / النعمان فاطلب جزاء ما قدمت لي . ورد عليه الرجل . أفعل هذا إن شاء الله . وبينما كان الملك يستعد للرحيل إذ أبصر رجاله الذين كانوا يبحثون عنه يتقدمون نحو الخباء، ثم ساروا مع الملك نحو قصوره في الحيرة !! 

تمضي الأيام، ويشعر رجل طي بقسوة الأيام وأنه أصبح فقيرا معدما لا يملك قوت يومه وقرر بعد التشاور مع زوجته أن يتجه إلي ملك الحيرة، لعله يجد مخرجا لما هو فيه وكان / النعمان قد شرب الخمر حتي سكر في بعض الأيام، وله نديمان أحدهما اسمه / خالد بن المضلل، والأخر اسمه / عمرو بن مسعود بن كلدة، فأمر بقتلهما، وعندما أفاق من سكره، وعرف ما اقترفت يداه، حزن حزنا شديدا، لأنه كان يحبهما حبا جما، فأمر بدفنهما، وأمر بأن يبني عليهما بناء طويلا عريضا سماه العزيان، وجعل لنفسه كل عام يوم بؤس، ويوم نعيم يجلس فيهما بين العزيين فما جاءه يوم نعيمه أكرمه ومن جاءه يوم بؤسه قتله !! 

وشاء حظ / حنظلة القادم إليه من عمق الصحراء، أن يذهب إليه في يوم بؤسه وعرفه / النعمان، وحزن حزنا شديدا بأن مصير هذا الرجل الذي أكرمه هو الموت . قال له / النعمان : يا / حنظلة هلا أتيت في غير هذا اليوم ؟ قال / حنظلة أبديت اللعن لم يكن لي علم بما أنت فيه قال له / النعمان بن المنذر : فاطلب حاجتك من الدنيا وسل ما بدا لك فإنك مقتول !! قال له الأعرابي : أبديت اللعن وما أصنع بالدنيا بعد موتي ؟ فأجلني حتي أعود إلى أهلي فأوصي إليهم وأقضي ما علي ثم انصرف إليك . قال له / النعمان : فأقم لك كفيلا . فالتفت الطائي إلى / شريك بن عمرو بن قيس الشيباني وكان يكنى / أبا الحوفزان فقال :- 

يا شريكا يا ابن عمروهل من الموت محاله
يــا أخــا كــل مـصـابيا أخـا مـن لا أخـا لـه
يـا أخـا النعمـان فيـكاليوم عن شيخ كفاله
ابــن شيـبـان كـريــمأنـعـم الرحـمـن بـالـه

ولكن / أبا شريك رفض أن يكفله وكان بين الحاضرين / قراد بن أجدع الكلبي فضمنه . مضت الأيام وجاء موعد عودته وفي اليوم الذي يسبق ميعاد حضور رجل طي، استقدم / النعمان / قرادا وقال له 
ما أراك إلا هالكا غدا فقال / قراد :-


وفي اليوم التالي ذهب / النعمان بن المنذر إلي العزيين، وكان يريد قتل / قراد حتي ينجو هذا الأعرابي الذي أكرم وفادته منذ سنين !! وكان يتحسر أن العذر ساق هذا الذي أكرمه في يوم نحسه لا يوم نعيمه كان ينظر إلي النطع والسيماني، ويتمني في قرارة نفسه ألا يفي هذا الأعرابي من وعده، وألا يعود، وأن يرتاح ضميره بأن يقتل من مد له يد المساعدة في وقت كان في أشد الحاجة إلي هذا العون فكيف يقتله جزاء إحسانه !! وبينما أراد أن يشير إلى السياف بقتل / قراده، إذ بشبح قادم من بعيد وكلما تقدم دق قلب / النعمان ابن المنذر، وهو يتمني ألا يكون هو ؟ ولكن وضحت الحقيقة عندما جاء شيخ طي، وعلى وجهه يبدوا عناء السفر واقترب من / النعمان، وهو يقول :-

ها أنذا قد أوفيت بالعهد وعليك أن تفك وثاق قراد !! سأله / النعمان : ما الذي أتي بك وقد أفلت من القتل ؟ قال الرجل وهو يلهث من التعب . الوفاء . 

وأمر / النعمان بهدم الغريين، وأمر بالعفو عن / قراد وعن الرجل الذي كفله، والذي أصبح الشطر الثاني من البيت من الشعر الذي قاله مثلا يضربه الناس في مختلف العصور [ فإن غدا لناظره قريب ] وقال / النعمان : ما أدري أيكما أكرم وأوفي أهذا الذي نجا من السيف فعاد إليه أم هذا الذي ضمنه، وأنا لا أكون ألأم الثلاثة . 

السبت، 15 أكتوبر 2016

قصة الملك الفارس عبد يغوث بن صلاة من بني الحارث بن كعب

هو عبد يغوث بن الحارث بن صلاءة ( صلاة ) وقال الكلبي بن المغفل أنه بن ربيعة بن كعب بن الارت بن ربيعة الحارث بن بن كعب بن الحارث بن عمرو بن علة بن خالد بن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
من الشعراء المقلين وممن إشتهر بالفروسية والجمال والكرم والشجاعة والسيادة في قومه ،أنه القائد والملك والفارس عبد يغوث بن صلاة من بلحارث بن كعب ، ، يعد هذا الفارس أعظم الملوك الذين حكموا نجران وليس ذلك فحسب وإنما من أعظم ملوك الجزيرة العربية ، لقب عبد يغوث بالعديد من الألقاب الشهيرة من أعظمها شيخ العرب ، ولم يلقب عبد يغوث بهذا اللقب عبثاً بل بعد معركة إنتصر فيها ، على تلك القبيلة التي أرادت أن تطيح بقريش وتلاشي سيادتها وكادت أن تفعل ذلك لولا الله ، ثم تدخل جيش جرار قاده عبد يغوث ، وكان عبارة عن همدان ومذحج التي ينتمي إليها فارسنا العظيم ( والعظمة لله ) .
ولكن سرعان ما اتجه عبد يغوث إلى هؤلاء و أطاح بهم ، وبذلك لقب بشيخ العرب ، وكذلك لقبت قبائل قحطان بذلك اللقب ( شيوخ العرب ) . وقد قيل عنه المقوله المشهورة ( كأنه من قريش و أخواله بني عبد المدان ) . وقيل ذلك كناية لشجاعته وجماله ، حيث يعلم الجميع ويقر بأن قريش التي يرجع إليها نسب النبي صلى الله عليه وسلم وأهل البيت عليهم أفضل الصلاة ،هم مثال للشجاعة والفروسية والجمال والكرم والحنكة و حسن القيادة والسيادة
وكان عبد يغوث ذلك الفارس الذي إتصف بالفروسية وحسن القيادة وحبه لقبيلته و دفاعه عن الجيش الذي يقوده ، وكذلك إشتهر بقوته وشدة قبضته التي أدت إلى مصرع العديد من القادة الذين أرادوا محاربته ، فقد كانت نجران محط أنظار القبائل الأخرى سواء كانت قريبة ، أو بعيدة ، ولا نلومهم فقد كــــــانت نجــــــــران جنـــــة الله على أرضه ، فقد كان نهـــــر لار يشق نجران متجهاً إلى ( الخليج العربي ) ، و لكن كانت قبيلة بلحارث وحلفاؤها درعاً شائكاً ، ضد من أراد ، نزع نجران من قبضة ملوك نجران. وخصوصاً في زمن حكم عبد يغوث الذي يخشى مواجهته الفرسان ، كان فارسنا الذي أتكلم عنه من الفرسان الذين يعشقون صهيل الخيول ، و رؤية الشرار التي تتناثر من سيوف المتبارزين ومن رماحهم . كان من ضمن فرسان بني الحارث ومذحج بشكل عام ، يغزون أواسط نجد ، وهذا شيء خيالي ومن الخوارق في وقت لا توجد فيه طيارات ولا سيارات ( الآلاف من الكيلومترات )وهذا دليل على سطوة ملك بلحارث وقوتهم ، وقد اتخذوا من تثليث قاعدة أمامية لهم ، و من نجران عاصمة لهم
و قد جهز جيشاً عظيماً ( في يوم الكلاب الثاني ) ضد بني تميم ، لدرجة أن الإخباريون قالوا بأنه أعظم جيش عرفته العرب حيث كان عدده إثني عشر ألف مقاتل ، وقد كان مكون من قبيلة مذحج وقبيلة كنده ( وهي قبيلة الملك حجر والد الشاعر إمرؤ القيس ) وقبيلة همدان ، وكان يقوده فارسنا الكبير عبد يغوث على الرغم من وجود ملك كندة وملك همدان إلا أنه الأحق بالقيادة والأكفأ لها ، وقد كان بجواره الملك يزيد بن عبد المدان الذي أخذ الملك بعده و يزيد بن المخرم ، ويزيد بن الكيشم بن المأمون ، و يزيد بن هوبر وهم كلهم حارثيون
و اتجه الفارس عبد يغوث بجيشه إلى بني تميم وانطلق قوم من تميم إلى أكثم بن صيفي و أرادوا مشاورته فقال لهم ( أقلوا الخلاف على أمرانكم ، واعلمو أن كثرة الصيح من الفشل ، يا قوم اثبتوا فإن أحزم الحزبين الركين ) ولما انصرفوا من عنده هجم جيش عبد يغوث وحلفاؤه ، وبدأت المعركة ، و كانت الغلبة في بداية الأمر لمذحج وحلفاؤها ، فقد سقطت العديد من جماجم بني تميم تحت سيوف ورماح مذحج وحلفاؤها ، وكان عبد يغوث ينادي لمبارزة النعمان بن جساس الذي كان يقود تميم ، إلا أنهم أعلنوا مقتله في تلك المعركة على أحد فرسان مذحج وربما أصيب بسهم أو رمح ، وقيل أن النعمان بن جساس أصيب بحربة من أحد فرسان جيش عبد يغوث ، وهو يقول خُذها وأنا ابنُ الحنظلية! فخر النعمان صريعاً .
عموماً بعد إعلان مقتل قائد تميم تحولت موازين المعركة ، فبعد سيطرة أهل نجران وحلفاؤها على المعركة و إعلان مقتل قائد تميم زاد غضب بني تميم ، وتحولت المعركة لصالحهم وصاح قيس بن عاصم المنقري من تميم ( يا قوم لا تقتلوا إلا فارساً واحداً فإن الرجالة لكم ) ويريد من قوله ( عبد يغوث ) .
وكما أسلفت انقبت موازين المعركة و واجه عبد يغوث رجل أهوج(مجنون) من تميم وطلب من عبد يغوث مبارزته ولكن عبد يغوث يتجاهله فإذا برمح من الأهوج ، يطيح بفرس عبد يغوث قائد مذحج وحلفاؤها ، وأسر في تلك المعركة ، وعمدوا لإهانته ، وخافت تميم من أن يهجوهم بشعره ، فربطوا لسانه ، ووعدهم بأن لا يهجوهم ، ويفكوا لسانه ، فقال أبيات حزينة في الرثاءوقد اتفق الادباء على أنها أصدق ما قيل في الرثاء ، بالاضافة إلى قصيدة طرفة بن العبد فقط وقد ذكرت هذه الابيات في كتاب يسمى رثاء النفس للمؤلف حسين علي محمد عموماً هذه الأبيات الحزينة التي أنشده الملك عبد يغوث ، ينوح فيها نفسه ويذم أصحابه ، و في ذلك الوقت رأته أم العبشمي الأهوج الذي أسره .
وقالت أم الأهوج الرجل الذي أسره وقد رأته عظيما جميلا جسيما : من أنت ؟ قال: أنا سيد القوم
فضحكت وقالت : قبحك الله من سيد قوم حين أسرك هذا الأهوج .
فرد عليها عبد يغوث :وتضحك مني شيخة عبشــــمية=كأن لم تري قبلي أسيرا ً يما نيا
ثم قال لها : أيتها العزيزة ، هل لك إلى خير؟ قالت : وما ذاك ؟ قال : أعطي ابنك مئة من الإبل وينطلق بي إلى الأهتم فإني أتخوف أن تنتزعني سعد والرباب منه . فضمن له مئة من الإبل ، قبضها العبشمي وانطلق إلى الأهتم فقال عبد يغوث :
أأهــــــــــــــــتم يا خير البريــة والـدا ً      ورهطا ً إذا ما الناس عدُّوا المساعيــــا
تدارك أسيرا ًعانيـــــــــــاً في بلادكـم      ولا تثقفني التـــــيم ألقــــى الـــدواهيـــــا

ولكنهم خدعوه فأخذوا الإبل ولم يطلقوا سراحه ، فطلب منهم أن يقتلوه قتل الكريم بحيث يقطعون وريده ويعطوه خمراً ويدعوا دمه ينزف حتى الموت ،
وأنشد أبياتاً تعد أجمل ما قيل في رثاء النفس وتعد قصيدته التي سأذكرها وقصيدة طرفة بن العبد أجمل قصديتين على الاطلاق وقد ذكرت في العديد من الكتب ومن أشهرها الكتاب الذي ذكرته آنفاً فقد أنشد الملك الفارس أبيات حزينة يقول فيها :
أَلاَ لا تَلُومَانِي كَفى اللَّوْمَ مـا بِيَـــــــــــــا        وما لَكُما في اللَّوْم خَيْـرٌ ولا لِيَــــــــــا
أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّ المَلاَمَةَ نَفْعُهـا قليــــــــــــل ٌ         ،وما لَوْمِـي أَخِـي مِـن شِمَالِيَـــــــــــا

الأحد، 2 أكتوبر 2016

حال العرب في العصر الجاهلي

العرب قبل الإسلام مصطلحٌ  يُعبِّرُ عن أحوال العرب السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في شبه الجزيرة العربية والمناطق التي سكنها العربُ قديماً قبل انتشار الإسلام، وتقع هذه المناطق جغرافيّاً ضمن ما يُعرف باسم الصفيحة العربية.
وبدأت الدراسات عن تاريخ العرب القديم وشبه الجزيرة العربية بشكلٍ عامّ في العصر الحديث، تحديداً في القرن التاسع عشر، حيث أبدى المستشرقون اهتماماً كبيراً بدراسة هذا المجال  فقد تمكنوا من ترجمةِ ونشرِ عددٍ كبيرٍ من النقوش المكتشفة، وكذلك صياغةِ التاريخ بشكل علميّ، معتمدين في ذلك على المصادر الأوليّة القديمة التي أشارت إلى حياة العرب في تلك الأزمنة.
وبعد نشوء الهجرات السامية اطلقت كل جماعة منهم اسما تسمت به، أما أول ظهور تاريخي لكلمة "عرب" فقد كان في "معركة قرقر" في سنة (853 ق.م) واطلق هذا الاسم في البداية على سكان شمال الجزيرة العربية وبالذات مقترنا بالقيداريين، ثم توالى ذكر العرب في النصوص التاريخية بعد ذلك بشكل متسارع حتى شملت كلمة "عرب" ليس فقط سكان شمال الجزيرة العربية بل كل سكانها حتى الجنوب، وقد قسم المؤرخون المسلمون أصول العرب إلى ثلاث طبقات: وهم العرب العاربة، العرب المستعربة، والعرب البائدة. تلك التقسيمات بالإضافة إلى تسمية "عدنانيين" و"قحطانيين" لم تكن موجودة قبل الإسلام ولم يعرفها الأدب الجاهلي وإنما وجدت بعد الإسلام في الفترة الأموية حيث أصبح اليمانيون أو "عرب الجنوب" كما يسميهم المستشرقون من جهة وعرب باقي الجزيرة العربية "الشماليون" بحسب المستشرقين من جهة أخرى يتبارون في المفاخر وكل فئه تنسب أصل العروبة لها فاليمانيون يقولون منًا يعرب ونحن أصل العرب والشماليون يقولون نحن فقط بني أسماعيل أبو العرب وأنتم لستم منه، والمعروف أن العرب جميعهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم النبي، وتشير المصادر التاريخية القديمة أن العرب عرفوا باسم "الإسماعيليين حتى فترات قريبة من الإسلام، وتذكر الكتب السماوية قصة البشارة حيث نجد أن الله قد وعد نبيه إبراهيم الخليل بأن إبنه إسماعيل الابن البكر لأمه هاجر سيكون من أعقابه أمة كبيرة، ويذكر في سيرة الخليل إبراهيم أنهم لما بلغوا بئر سبع بفلسطين صلى على إبنه الأكبر إسماعيل، وأمته من العرب. وقد ورد في القرآن الكريم استجابة الله لإبراهيم عندما دعا ربه قائلا :  رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ أما "العرب البائدة" فهم الأقوام القديمة التي لم يبق لها ذكر، بعض الشعوب العربية التي ذكرت في المصادر القديمة ثم اختفت وهي العماليق، ثمود، القيداريين، مديانيين، دادانيين). وظهر من الجزيرة العربية الهكسوس الذين نزحوا من الشمال واستولوا علي الدلتا بشمال مصر في الألفية الثانية ق.م.
ولم يرد ذكر لإسماعيل في أي كتابة قديمة ولا توجد دلائل أن العرب قبل الإسلام كانوا يعرفونه. فكلمة "عربي" في كل النصوص القديمة تعني البدوي سواء كان في الجزيرة العربية أو صحراء مصر ,  أما اليمنيون فلم يعرفوه البتة وكانوا يعتقدون أنهم أبناء آلهتهم
 الحالة السياسية : 
العلاقات البينية للممالك والشعوب العربية القديمة متعددة وتشتمل على العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية، في مجال العلاقات السياسية لممالك جنوب الجزيرة العربية نجد أن هذه الممالك تحاربت وتوحدت مرارا عبر التاريخ كما ارسلت بعثاتها فيما بينها وإلى العرب الشماليين، من ذلك حضور ممثلي مملكة سبأ تتويج العزيلط ملك مملكة حضرموت، ونجد أن العزيلط في وقت لاحق قد استقبل وفودا من تدمر ومن قريش، وكذلك قيام حرب بين قوات ملك كرب يعفر ملك حمير من طرف وقوات المنذر بن امرئ القيس ملك المناذرة والثائرين معه في الطرف آخر والتي حدثت في "مأسل الجمح" عام (516م وللحميريين حملات أخرى في شبه الجزيرة العربية منها حملتهم (360م) على يبرين (شرق الجزيرة العربيةوجو (تسمى اليمامة الآن شمال شرق الجزيرة العربيةوالخرج (وسط الجزيرة العربية) حيث اشتبك الحميريون من ضمن من اشتبكوا معهم مع قبائل معروفة هي إياد ومعد وعبد القيس ومراد وكانت هزيمة القبيلتين الأخيرتين في "سيان" شمال شرق مكة بين أرض نزار وأرض غسان بحسب النقش ونجد زيارة أبو كرب اسعد لديار معد بمناسبة تنصيب مسؤولين لقبيلتهم، ونجد نقش نفس الملكين في "مأسل" كذكرى لمرورهم في تلك الأراضي مصطحبين معهم أعيان دولتهم، وكذلك بعثة شمر يرعش إلى مالك ملك الأزد التي أكملت طريقها إلى المدائن وسلوقية.
قبيل الإسلام انهارت ثلاث دول عربية قديمة هي مملكة حمير (525 مومملكة الغساسنة (583 م) ومملكة المناذرة (609 م) وكانت كل واحدة منهم فيما سبق تؤلف دولة تحكم أراضيها وتمد سيطرتها على مناطق أخرى بواسطة قبائل تحكمها تلك الحكومات بشكل مباشر ويكون استتباع هذه القبائل هو بتبادل المصالح فتوفر الدول المال للقبائل للحفاظ على طرق شبكة التجارة العربية والتي كانت الشريان الأساسي لاقتصاد الجزيرة العربية من قطاع الطرق سواء بواسطة الصعاليك الخلعاء أو حتى بواسطة القبائل الأخرى والتي لم تكن تنظر لهذا العمل على أنه جريمة بل فخرحيث يحصل قاطع الطريق على المال لأهله وعشيرته من قوم لاتربطه بهم صلة دم أو دين. وتشترك القبائل المحكومة من قبل تلك الدول مع هذه الدول في حروبها وفي المقابل توفر هذه الدولة الحماية للقبائل فتعلن الحرب على من يتهجم ويتحرش بهذه القبائل، فكان سقوط هذه الدول القوية قبيل قبيل البعثة إيذانا بحالة من عدم الاستقرار والحروب بين تلك القبائل التي لا تجد غير العنف لفرض هيبتها حيث لو أحس الآخرون ضعفا استخفوا بها وهاجموها حيث ترسخت هذه المعطيات السياسية فيما بعد على شكل قيم متوارثة.
طبيعة الحكم داخل مجتمعات كمكة هو النظام العشائري، حيث يتشارك أعيان تلك العشائر القوية في تلك المدينة بالحكم عبر النقاش، وفي حالة مكة فإن هناك مجلس هو دار الندوة يلتقي فيه الأعيان ويناقشون الأمور الداخلية مثل فض المنازعات بين الأفراد والأمور الخارجية مثل الحروب وعقد الأحلاف وتنظيم التجارة.
الحالة الاقتصادية: 
اقتصاد الجزيرة العربية في ذلك الوقت كان يعتمد على شبكة التجارة العربية القديمة، وبالإضافة لذلك فهناك نشاطات اقتصادية متعددة منها الزراعة والتي ازدهرت في بعض المناطق بالرغم من عدم وجود أنهار دائمة في الجزيرة العربية، فاستعمل العرب قديما أنظمة السدود وقنوات الري خصوصا في اليمن وشرق الجزيرة العربية ووادي القرى شمال الحجاز والطائف التي تعتبر فرضة أهل مكة، وتلك المناطق انتجت اصنافا من الحبوب والفاكهة أما الزراعة في الأقسام الأخرى من الجزيرة العربية اعتمدت على زراعة نخيل التمر بشكل أساسي، اقتصاد مكة كان متينا حيث كانت مركزاً تجارياً ودينياً هاماً نظراً لمرور القوافل التجارية القادمة من الشمال والجنوب بها، وترجع أهميتها الدينية لوجود الكعبة المقدسة فيها، والتي يفد إليها الحجاج كل عام مما كان يساعد على الازدهار الاقتصادي كذلك.
كانت قريش أهل تجارة قد أوسر سادتها من ورائها. فكانت عيرهم تنطلق صيفا الشام وفلسطين ومصر. وشتاء كانت هذه القوافل تتجه جنوبا لليمن. وكانت القوافل التجارية الكبرى تتجه غادية رائحة. فكانت تمر بأطراف شبه الجزيرة العربية علي ثلاثة محاور رئيسية. فكان هناك طريق القوافل الجنوبي الشمالي حيث كانت تقطعها من جدة بالحجاز إلي الشام وسيناء ومصر. والطريق الثاني يقع في أطراف شرق الجزيرة العربية متجها من الخليج العربي جنوب العراق ليصل لبلاد الرافدين شمالا، ليعرج منها للشام الي دمشق لتصل هذه القوافل لبلاد الشام وفلسطين . والطريق الثالث كان يقع بغرب الجزيرة العربية ويمر بحذاء ساحل البحر الأحمر. ويبدأ من اليمن عبر جدة, فالمدبنة ليتجه شمالا للشام والبتراء بالأردن. وهذه الرحلات الموسمية صيفا وشتاء ظل عليها العرب مبقين.
العلوم: 
بالرغم من عدم وجود مخطوطات علمية ترجع للعصور الجاهلية إلا أن هنالك ما يدل على أنه كانت لديهم علوم متوارثة في مجالات مختلفة، في مجال الفلك الذي كان الجاهليون يدعونه "علم الأنوار" عرفوا مواقع النجوم واستدلوا بها للاهتداء إلى مسالكهم في البر والبحر، ولهم معرفة في أوقات ظهور الكواكب حيث كانوا يعبدون بعض الكواكب لاسيما "الزهرة" التي تظهر في أوقات محددة والتي مثلوها بصنم هو "العزى"، في مجال الرياضيات يذكر أن فيثاغورس كان قد زار ضمن رحلته بلاد العرب ليتعلم من حكمة أهلها، كان العرب أمة تجارية ولاشك انهم استخدموا أنماط كثيرة من علوم الرياضيات ومنها الجبر
الديانة: 
في الفترة التي سبقت الإسلام كان معظم العرب قد فقدوا تعاليم أنبياء الله إليهم مثلهود وصالح، كما ضعفت تعاليم الحنيفية دين أبيهم إبراهيم، وأصبحوا على الوثنية يعبدون الأصنام، وكانت منهم قلة دانت بالمسيحية، واليهودية، وقلة أخرى ضئيلة دانت بديانات الصابئة والحنيفية.
كانت الألوهية العليا في جاهلية العرب قبل الإسلام منوطة بالله وحده، وكانوا يبجلونه كقوة مسيطرة نافذة، ولكنه يستعين بشركاء له في تأدية مهماته المقدسة وهم الأصنام التي كانوا يتقربون إليها حسب حاجتهم لكل منها.

السجايا والاخلاق الإسلامية
عرفت الأمم الأخرى عن العرب صفات كثيرة كانت هذه الفضائل والأخلاق الحميدة رصيدا ضخما في نفوس العرب، فجاء الإسلام فنماها وقواها، ووجهها وجهة الخير والحق، فلا عجب إذا كانوا انطلقوا من الصحاري كما تنطلق الملائكة الأطهار، فتحوا الأرض، وملئوها إيمانا بعد أن ملئت كفرا، وعدلا بعد أن ملئت جورا، وفضائل بعد أن عمتها الرذائل، وخيرا بعد أن طفحت شر.
هذه بعض أخلاق المجتمع الذي تنتشر فيه الفضيلة فبذلك يكون مؤهلا لحمل الرسالة الإسلامية، وإنما اختير من هذه البيئة البكر؛ لأن الأقوام الأخرى وإن كانوا على ما هم عليه وما هم فيه من فلسفة ومعارف، إلا أنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه العرب من سلامة الفطرة، وحرية الضمير، وسمو الروح
الذكاء والفطنة :
فقد كانت قلوبهم صافية، لم تدخلها تلك الفلسفات والأساطير والخرافات التي يصعب إزالتها، كما في الشعوب المجاورة، فكأن قلوبهم كانت تعد لحمل أعظم رسالة في الوجود وهي دعوة الإسلام الخالدة؛ ولهذا كانوا أحفظ شعب عرف في ذلك الزمن، وقد وجه الإسلام قريحة الحفظ والذكاء إلى حفظ الدين وحمايته، فكانت قواهم الفكرية، ومواهبهم الفطرية مذخورة فيهم، لم تستهلك في فلسفات خيالية، وجدال بيزنطي عقيم، ومذاهب كلامية معقدة وكان من أمر فطنتهم أنهم يستخدمون الإشارة فضلا عن العبارة، وشواهد ذلك كثيرة
الكرم والسخاء:
كان هذا الخُلُق متأصلا في العرب، وكان الواحد منهم لا يكون عنده إلا فرسه، أو ناقته، فيأتيه الضيف، فيسارع إلى ذبحها، أو نحرها له، وكان بعضهم لا يكتفي بإطعام الإنسان بل كان يطعم الوحش، والطير، وكرم حاتم الطائي سارت به الركبان، وضربت به الأمثال
المروءة والنجدة :
كانوا يتمادحون بالموت قتلاً، ويتهاجون بالموت على الفراش قال أحدهم لما بلغه قتل أخيه: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفًا، ولكن قطعًا بأطراف الرماح، وموتًا تحت ظلال السيوف.  
وكان العرب لا يقدمون شيئا على العز وصيانة العرض، وحماية الحريم، واسترخصوا في سبيل ذلك نفوسهم
وكان العرب بفطرتهم أصحاب شهامة ومروءة، فكانوا يأبون أن ينتهز القوي الضعيف، أو العاجز، أو المرأة أو الشيخ، وكانوا إذا استنجد بهم أحد أنجدوه ويرون من النذالة التخلي عمن لجأ إليهم.
عشقهم للحرية، وإباؤهم للضيم والذل :
كان العربي بفطرته يعشق الحرية، يحيا لها، ويموت من أجلها، فقد نشأ طليقًا لا سلطان لأحد عليه، ويأبى أن يعيش ذليلاً، أو يمس في شرفه وعرضه ولو كلفه ذلك حياته، فقد كانوا يأنفون من الذل ويأبون الضيم والاستصغار والاحتقار وتتكرر تلك القيمة مرارا في الشعر الجاهلي، ولاتجد شعوبا أخرى تتسلط عليهم وتحتلهم طوال تاريخهم، وأشاد هيرودوتس بحب العرب للحرية، وحفاظهم عليها ومقاومتهم لأية قوة تحاول استرقاقهم واستذلالهم.
الوفاء والصدق :
أما وفاؤهم: فقد قال النعمان بن المنذر لكسرى في وفاء العرب: «وإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماء فهي وَلث وعقدة لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عودًا من الأرض فيكون رهنًا بدينه فلا يُغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به، وعسى أن يكون نائيا عن داره، فيصاب، فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي أصابته، أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره، وأنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله  والوفاء خلق متأصل بالعرب، فجاء الإسلام ووجهه الوجهة السليمة، فغلظ على من آوى محدثًا مهما كانت منزلته وقرابته، قال رسول الله: «لعن الله من آوى محدثا». ومن القصص التي توضح شيمة الوفاء عندهم: «أن الحارث بن عباد قاد قبائل بكر لقتال تغلب وقائدهم المهلهل الذي قتل ولد الحارث، وقال: (بؤ بشسع نعل كليب) في حرب البسوس، فأسر الحارث مهلهلاً وهو لا يعرفه، فقال دلني على مهلهل بن ربيعة وأخلي عنك، فقال له: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال: نعم قال: فأنا هو، فجز ناصيته وتركه» وهذا وفاء نادر ورجولة تستحق الإكبار. ومن وفائهم: أن النعمان بن المنذر خاف على نفسه من كسرى لما منعه من تزويج ابنته فأودع أسلحته وحرمه إلى هانئ بن مسعود الشيباني، ورحل إلى كسرى فبطش به، ثم أرسل إلى هانئ يطلب منه ودائع النعمان، فأبى، فسير إليه كسرى جيشًا لقتاله فجمع هانئ قومه آل بكر وخطب فيهم فقال: «يا معشر بكر، هالك معذور، خير من ناج فرور، إن الحذر لا ينجي من قدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، الطعن في ثغر النحور، أكرم منه في الأعجاز والظهور، يا آل بكر قاتلوا فما للمنايا من بد، واستطاع بنو بكر أن يهزموا الفرس في موقعة ذي قار، بسبب هذا الرجل الذي احتقر حياة الصغار والمهانة، ولم يبال بالموت في سبيل الوفاء بالعهود.
الصبر على المكاره وقوة الاحتمال، والرضا باليسير :
كانوا يقومون من الأكل ويقولون: البطنة تذهب الفطنة، ويعيبون الرجل الأكول الجشع
وكانت لهم قدرة عجيبة على تحمل المكاره والصبر في الشدائد، وربما اكتسبوا ذلك من طبيعة بلادهم الصحراوية الجافة، قليلة الزرع والماء، فألفوا اقتحام الجبال الوعرة، والسير في حر الظهيرة، ولم يتأثروا بالحر ولا بالبرد، ولا وعورة الطريق، ولا بعد المسافة، ولا الجوع، ولا الظمأ، ولما دخلوا الإسلام ضربوا أمثلة رائعة في الصبر، والتحمل وكانوا يرضون باليسير، فكان الواحد منهم يسير الأيام مكتفيا بتمرات يقيم بها صلبه، وقطرات من ماء يرطب بها كبده
قوة البدن وعظمة النفس :
واشتهروا بقوة أجسادهم مع عظمة النفس وقوة الروح، وإذا اجتمعت البطولة النفسية إلى البطولة الجسمانية صنعتا العجائب، وهذا ما حدث بعد دخولهم في الإسلام. كما كانوا ينازلون أقرانهم وخصومهم، حتى إذا تمكنوا منهم عفوا عنهم وتركوهم، يأبون أن يجهزوا على الجرحى، وكانوا يرعون حقوق الجيرة، ولا سيما رعاية النساء والمحافظة على العرض
وكانوا إذا استجار أحد الناس بهم أجاروه، وربما ضحوا بالنفس والولد والمال في سبيل ذلك.